الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **
قال: [وليس على فقير من العاقلة ولا امرأة, ولا صبي ولا زائل العقل حمل شيء من الدية] أكثر أهل العلم, على أنه لا مدخل لأحد من هؤلاء في تحمل العقل قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة والصبي الذي لم يبلغ, لا يعقلان مع العاقلة وأجمعوا على أن الفقير لا يلزمه شيء وهذا قول مالك والشافعي, وأصحاب الرأي وحكى بعض أصحابنا عن مالك وأبي حنيفة, أن للفقير مدخلا في التحمل وذكره أبو الخطاب رواية عن أحمد لأنه من أهل النصرة فكان من العاقلة كالغني والصحيح الأول لأن تحمل العقل مواساة فلا يلزم الفقير كالزكاة, ولأنها وجبت على العاقلة تخفيفا عن القاتل فلا يجوز التثقيل بها على من لا جناية منه وفي إيجابها على الفقير تثقيل عليه, وتكليف له ما لا يقدر عليه ولأننا أجمعنا على أنه لا يكلف أحد من العاقلة ما يثقل عليه ويجحف به, وتحميل الفقير شيئا منها يثقل عليه ويجحف بماله وربما كان الواجب عليه جميع ماله, أو أكثر منه أو لا يكون له شيء أصلا وأما الصبي والمجنون والمرأة فلا يحملون منها لأن فيها معنى التناصر, وليس هم من أهل النصرة.
ويعقل المريض إذا لم يبلغ حد الزمانة والشيخ إذا لم يبلغ حد الهرم لأنهما من أهل النصرة والمواساة وفي الزمن والشيخ الفاني وجهان أحدهما: لا يعقلان لأنهما ليسا من أهل النصرة ولهذا لا يجب عليهما الجهاد, ولا يقتلان إذا كانا من أهل الحرب وكذلك يخرج في الأعمى لأنه مثلهما في هذا المعنى والثاني يعقلون لأنهم من أهل المواساة ولهذا تجب عليهم الزكاة وهذا ينتقض بالصبي والمجنون ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كمذهبنا.
قال: [ومن لم يكن له عاقلة, أخذ من بيت المال فإن لم يقدر على ذلك فليس على القاتل شيء] الكلام في هذه المسألة: في فصلين:
أن من لا عاقلة له, هل يؤدي من بيت المال أو لا؟ فيه روايتان إحداهما يؤدى عنه وهو مذهب الزهري والشافعي لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ودى الأنصاري الذي قتل بخيبر من بيت المال وروي أن رجلا قتل في زحام في زمن عمر, فلم يعرف قاتله فقال علي لعمر: يا أمير المؤمنين لا يطل دم امرئ مسلم فأدى ديته من بيت المال ولأن المسلمين يرثون من لا وارث له فيعقلون عنه عند عدم عاقلته, كعصباته ومواليه والثانية لا يجب ذلك لأن بيت المال فيه حق للنساء والصبيان والمجانين والفقراء ولا عقل عليهم فلا يجوز صرفه فيما لا يجب عليهم, ولأن العقل على العصبات وليس بيت المال عصبة ولا هو كعصبة هذا, فأما قتيل الأنصار فغير لازم لأن ذلك قتيل اليهود وبيت المال لا يعقل عن الكفار بحال, وإنما النبي -صلى الله عليه وسلم- تفضل عليهم وقولهم: إنهم يرثونه قلنا: ليس صرفه إلى بيت المال ميراثا بل هو فيء ولهذا يؤخذ مال من لا وارث له من أهل الذمة إلى بيت المال, ولا يرثه المسلمون ثم لا يجب العقل على الوارث إذا لم يكن عصبة ويجب على العصبة وإن لم يكن وارثا فعلى الرواية الأولى, إذا لم يكن له عاقلة أديت الدية عنه كلها من بيت المال وإن كان له عاقلة لا تحمل الجميع, أخذ الباقي من بيت المال وهل تؤدى من بيت المال في دفعة واحدة أو في ثلاث سنين؟ على وجهين أحدهما: في ثلاث سنين على حسب ما يؤخذ من العاقلة والثاني, يؤدى دفعة واحدة وهذا أصح لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أدى دية الأنصاري دفعة واحدة وكذلك عمر ولأن الدية بدل متلف لا تؤديه العاقلة, فيجب كله في الحال كسائر بدل المتلفات وإنما أجل على العاقلة تخفيفا عنهم, ولا حاجة إلى ذلك في بيت المال ولهذا يؤدى الجميع.
إذا لم يمكن الأخذ من بيت المال فليس على القاتل شيء وهذا أحد قولي الشافعي لأن الدية لزمت العاقلة ابتداء, بدليل أنه لا يطالب بها غيرهم ولا يعتبر تحملهم ولا رضاهم بها ولا تجب على غير من وجبت عليه, كما لو عدم القاتل فإن الدية لا تجب على أحد كذا ها هنا فعلى هذا, إن وجد بعض العاقلة حملوا بقسطهم وسقط الباقي, فلا يجب على أحد ويتخرج أن تجب الدية على القاتل إذا تعذر حملها عنه وهذا القول الثاني للشافعي لعموم قول الله تعالى: قال: [ودية الحر الكتابي نصف دية الحر المسلم ونساؤهم على النصف من دياتهم] هذا ظاهر المذهب وهو مذهب عمر بن عبد العزيز, وعروة ومالك وعمرو بن شعيب وعن أحمد, أنها ثلث دية المسلم إلا أنه رجع عنها فإن صالحا روى عنه أنه قال: كنت أقول: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف, وأنا اليوم أذهب إلى نصف دية المسلم حديث عمرو بن شعيب وحديث عثمان الذي يرويه الزهري عن سالم عن أبيه وهذا صريح في الرجوع عنه وروي عن عمر وعثمان, أن ديته أربعة آلاف درهم وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والحسن, وعكرمة وعمرو بن دينار والشافعي, وإسحاق وأبو ثور لما روى عبادة بن الصامت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (دية اليهودي والنصراني, أربعة آلاف أربعة آلاف) وروى عن عمر رضي الله عنه جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ودية المجوسي ثمانمائة درهم وقال علقمة, ومجاهد والشعبي والنخعي, والثوري وأبو حنيفة: ديته كدية المسلم وروي ذلك عن عمر وعثمان, وابن مسعود ومعاوية رضي الله عنهم وقال ابن عبد البر: هو قول سعيد بن المسيب والزهري لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه, عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (دية اليهودي والنصراني مثل دية المسلم) ولأن الله تعالى ذكر في كتابه دية المسلم فقال:
وجراحاتهم من دياتهم كجراح المسلمين من دياتهم وتغلظ دياتهم باجتماع الحرمات, عند من يرى تغليظ ديات المسلمين بها كتغليظ ديات المسلمين قال حرب: قلت لأبي عبد الله: فإن قتل ذميا في الحرم؟ قال: يزاد أيضا على قدره كما يزاد على المسلم وقال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: جنى على مجوسي في عينه وفي يده؟ قال: يكون بحساب ديته, كما أن المسلم يؤخذ بالحساب فكذلك هذا قيل: قطع يده؟ قال: بالنصف من ديته.
قال: [فإن قتلوه عمدا أضعفت الدية على قاتله المسلم لإزالة القود] هكذا حكم عثمان بن عفان رضي الله عنه هذا يروى عن عثمان رواه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر, عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رجلا قتل رجلا من أهل الذمة, فرفع إلى عثمان فلم يقتله وغلظ عليه ألف دينار فصار إليه أحمد اتباعا وله نظائر في مذهبه فإنه أوجب على الأعور لما قلع عين الصحيح دية كاملة, حين درأ القصاص عنه وأوجب على سارق التمر مثلي قيمته حين درأ عنه القطع وهذا حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- في سارق التمر فيثبت مثله ها هنا ولو كان القاتل ذميا, أو قتل ذمي مسلما لم تضعف الدية عليه لأن القصاص عليه واجب في الموضعين وجمهور أهل العلم على أن دية الذمي لا تضاعف بالعمد لعموم الأثر فيها ولأنها دية واجبة, فلم تضاعف كدية المسلم أو كما لو كان القاتل ذميا ولا فرق في الدية بين الذمي وبين المستأمن لأن كل واحد منهما كتابي معصوم الدم وأما المرتد والحربي, فلا دية لهما لعدم العصمة فيهما.
قال: [ودية المجوسي ثمانمائة درهم ونساؤهم على النصف] وهذا قول أكثر أهل العلم قال أحمد: ما أقل ما اختلف في دية المجوسي وممن قال ذلك عمر وعثمان, وابن مسعود رضي الله عنهم وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار, وعطاء وعكرمة والحسن, ومالك والشافعي وإسحاق وروي عن عمر بن عبد العزيز, أنه قال: ديته نصف دية المسلم كدية الكتابي لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) وقال النخعي والشعبي, وأصحاب الرأي: ديته كدية المسلم لأنه آدمي حر معصوم فأشبه المسلم ولنا قول من سمينا من الصحابة, ولم نعرف لهم في عصرهم مخالفا فكان إجماعا وقوله: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) يعني في أخذ جزيتهم وحقن دمائهم, بدليل أن ذبائحهم ونساءهم لا تحل لنا ولا يجوز اعتباره بالمسلم ولا الكتابي لنقصان ديته وأحكامه عنهما, فينبغي أن تنقص ديته كنقص المرأة عن دية الرجل وسواء كان المجوسي ذميا أو مستأمنا لأنه محقون الدم ونساؤهم على النصف من دياتهم بإجماع وجراح كل واحد معتبرة من ديته وإن قتلوا عمدا, أضعفت الدية على القاتل المسلم لإزالة القود نص عليه أحمد قياسا على الكتابي.
فأما عبدة الأوثان وسائر من لا كتاب له, كالترك ومن عبد ما استحسن فلا دية لهم وإنما تحقن دماؤهم بالأمان, فإذا قتل من له أمان منهم فديته دية مجوسي لأنها أقل الديات فلا تنقص عنها, ولأنه كافر ذو عهد لا تحل مناكحته فأشبه المجوسي؟
ومن لم تبلغه الدعوة من الكفار إن وجد لم يجز قتله حتى يدعى فإن قتل قبل الدعوة من غير أن يعطى أمانا فلا ضمان فيه لأنه لا عهد ولا أيمان فأشبه امرأة الحربي وابنه الصغير وإنما حرم قتله ليبلغه الدعوة وهذ قول أبي حنيفة، وقال أبو الخطاب: يضمن به أهل دينه وهو مذهب الشافعي لأن محقون الدم أشبه من له أمان، والأول أولى فإن هذا ينتقض بصبيان أهل الحرب ومجانينهم ولأنه كافر لا عهد له فلم يضمن كالصبيان والمجانين. فأما إذا كان له عهد فله دينه فإن لم يعرف ففيه دية المجوسي لأنه اليقين وما زاد مشكوك فيه.
قال: [ودية الحرة المسلمة نصف دية الحر المسلم] قال ابن المنذر, وابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل وحكى غيرهما عن ابن علية والأصم أنهما قالا: ديتها كدية الرجل لقوله عليه السلام: (في نفس المؤمنة مائة من الإبل) وهذا قول شاذ, يخالف إجماع الصحابة وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن في كتاب عمرو بن حزم: (دية المرأة على النصف من دية الرجل) وهي أخص مما ذكروه وهما في كتاب واحد, فيكون ما ذكرنا مفسرا لما ذكروه مخصصا له ودية نساء كل أهل دين على النصف من دية رجالهم, على ما قدمناه في موضعه.
قال: [وتساوي جراح المرأة جراح الرجل إلى ثلث الدية فإن جاوز الثلث فعلى النصف] وروي هذا عن عمر, وابن عمر وزيد بن ثابت وبه قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز, وعروة بن الزبير والزهري وقتادة, والأعرج وربيعة ومالك قال ابن عبد البر: وهو قول فقهاء المدينة السبعة, وجمهور أهل المدينة وحكي عن الشافعي في القديم وقال الحسن يستويان إلى النصف وروي عن علي رضي الله عنه أنها على النصف فيما قل وكثر وروي ذلك عن ابن سيرين وبه قال الثوري والليث وابن أبي ليلى, وابن شبرمة وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور والشافعي في ظاهر مذهبه واختاره ابن المنذر لأنهما شخصان تختلف ديتهما, فاختلف أرش أطرافهما كالمسلم والكافر ولأنها جناية لها أرش مقدر, فكان من المرأة على النصف من الرجل كاليد وروي عن ابن مسعود أنه قال: تعاقل المرأة الرجل إلى نصف عشر الدية, فإذا زاد على ذلك فهي على النصف لأنها تساويه في الموضحة ولنا ما روى عمرو بن شعيب, عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (عقل المرأة مثل عقل الرجل, حتى يبلغ الثلث من ديتها) أخرجه النسائي وهو نص يقدم على ما سواه وقال ربيعة: قلت لسعيد بن المسيب: كم في إصبع المرأة؟ قال: عشر قلت: ففي إصبعين؟ قال: عشرون قلت: ففي ثلاث أصابع؟ قال: ثلاثون قلت: ففي أربع؟ قال: عشرون قال: قلت: لما عظمت مصيبتها قل عقلها قال: هكذا السنة يا ابن أخي وهذا مقتضى سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رواه سعيد بن منصور ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم, إذ لم ينقل عنهم خلاف ذلك إلا عن على ولا نعلم ثبوت ذلك عنه, ولأن ما دون الثلث يستوي فيه الذكر والأنثى بدليل الجنين فإنه يستوي فيه الذكر والأنثى فأما الثلث نفسه, فهل يستويان فيه؟ على روايتين إحداهما يستويان فيه لأنه لم يعتبر حد القلة ولهذا صحت الوصية به وروي أنهما يختلفان فيه وهو الصحيح لقوله عليه السلام (حتى يبلغ الثلث) وحتى للغاية فيجب أن تكون مخالفة لما قبلها, لقول الله تعالى: فأما دية نساء سائر أهل الأديان فقال أصحابنا: تساوي دياتهن ديات رجالهم إلى الثلث لعموم قوله عليه السلام: (عقل المرأة مثل عقل الرجل, حتى يبلغ الثلث من ديتها) ولأن الواجب دية امرأة فساوت دية الرجل من أهل دينها كالمسلمين ويحتمل أن تساوي المرأة الرجل إلى قدر ثلث دية الرجل المسلم لأنه القدر الكثير الذي يثبت فيه التنصيف في الأصل, وهو دية المسلم. قال: [ودية العبد والأمة قيمتهما بالغة ما بلغ ذلك] وقد تقدم شرح هذه المسألة: فيما مضى ولا فرق في هذا الحكم بين القن من العبيد والمدبر والمكاتب وأم الولد قال الخطابي: أجمع عوام الفقهاء على أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم في جنايته, والجناية عليه إلا إبراهيم النخعي فإنه قال في المكاتب: يؤدي بقدر ما أدى من كتابته دية الحر, وما بقي دية العبد وروي في ذلك شيء عن علي رضي الله عنه وقد روى أبو داود في " سننه " والإمام أحمد, في " مسنده " قال: حدثنا محمد بن عبد الله: حد ثنا هشام بن أبي عبد الله قال " حدثني يحيى بن أبي كثير, عن عكرمة عن ابن عباس قال: (قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المكاتب يقتل, أنه يؤدي ما أدى من كتابته دية الحر وما بقي دية العبد) قال الخطابي: وإذا صح الحديث وجب القول به, إذا لم يكن منسوخا أو معارضا بما هو أولى منه. قال: [ودية الجنين إذا سقط من الضربة ميتا وكان من حرة مسلمة غرة, عبد أو أمة قيمتها خمس من الإبل موروثة عنه كأنه سقط حيا] يقال: غرة عبد بالصفة وغرة عبد بالإضافة والصفة أحسن لأن الغرة اسم للعبد نفسه, قال مهلهل: كل قتيل في كليب غره ** حتى ينال القتل آل مره في هذه المسألة فصول خمسة: أن في جنين الحرة المسلمة غرة وهذا قول أكثر أهل العلم منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعطاء والشعبي, والنخعي والزهري ومالك, والثوري والشافعي وإسحاق, وأبو ثور وأصحاب الرأي وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه استشار الناس في إملاص المرأة فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى فيه بغرة عبد أو أمة قال: لتأتين بمن يشهد معك فشهد له محمد بن مسلمة وعن أبي هريرة, رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها, فاختصموا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن دية جنينها عبد أو أمة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم) متفق عليه والغرة عبد أو أمة سميا بذلك لأنهما من أنفس الأموال, والأصل في الغرة الخيار فإن قيل: فقد روي في هذا الخبر: أو فرس أو بغل قلنا: هذا لا يثبت رواه عيسى بن يونس ووهم فيه قاله أهل النقل والحديث الصحيح المتفق عليه إنما فيه: عبد أو أمة فأما قول الخرقي: من حرة مسلمة فإنما أراد أن جنين الحرة المسلمة لا يكون إلا حرا مسلما, فمتى كان الجنين حرا مسلما ففيه الغرة وإن كانت أمه كافرة أو أمة, مثل أن يتزوج المسلم كتابية فإن جنينها منه محكوم بإسلامه وفيه الغرة, ولا يرث منها شيئا لأنه مسلم وولد السيد من أمته وولد المغرور من أمة حر وكذلك لو وطئت الأمة بشبهة فولدها حر, وفيه الغرة فأما إن كان الجنين محكوما برقه لم تجب فيه الغرة وسيأتي بيان حكمه وأما جنين الكتابية والمجوسية إذا كان محكوما بكفره, ففيه عشر دية أمه وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي قال ابن المنذر: ولم أحفظ عن غيرهم خلافهم وذلك لأن جنين الحرة المسلمة مضمون بعشر دية أمه, فكذلك جنين الكافرة إلا أن أصحاب الرأي يرون أن دية الكافرة كدية المسلمة فلا يتحقق عندهم بينهما اختلاف, فإن كان أبوا الجنين كافرين مختلفا دينهما كولد الكتابي من المجوسية والمجوسي من الكتابية, اعتبرناه بأكثرهما دية فنوجب فيه عشر دية كتابية على كل حال لأن ولد المسلمة من الكافرة معتبر بأكثرهما دية كذا ها هنا ولا فرق فيما ذكرناه بين كون الجنين ذكرا أو أنثى لأن السنة لم تفرق بينهما وبه يقول الشافعي, وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي, وعامة أهل العلم ولو ضرب بطن كتابية حاملا من كتابي فأسلم أحد أبويه ثم أسقطته, ففيه الغرة في قول ابن حامد والقاضي وهو ظاهر كلام أحمد ومذهب الشافعي لأن الضمان معتبر بحال استقرار الجناية, والجنين محكوم بإسلامه عند استقرارها وفي قول أبي بكر وأبي الخطاب: فيه عشر دية كتابية لأن الجناية عليه في حال الغرة وإن ضرب بطن أمة فأعتقت ثم ألقت الجنين, فعلى قول ابن حامد والقاضي فيه غرة وفي قول أبي بكر وأبي الخطاب, فيه عشر قيمة أمه لأن الجناية عليه في حال كونه عبدا ويمكن منع كونه عبدا ويمكن منع كونه صار حرا لأن الظاهر تلفه بالجناية وبعد تلفه لا يمكن تحريره وعلى قول هذين يكون الواجب فيه لسيده وعلى قول ابن حامد للسيد أقل الأمرين من الغرة أو عشر قيمة أمه لأن الغرة إن كانت أكثر, لم يستحق الزيادة لأنها زادت بالحرية الحاصلة بزوال ملكه وإن كانت أقل, لم يكن له أكثر منهما لأن النقص حصل بإعتاقه فلا يضمن له كما لو قطع يد عبد فأعتقه سيده ثم مات بسراية الجناية, كان له أقل الأمرين من دية حر أو نصف قيمته وما فضل عن حق السيد لورثة الجنين فأما إن ضرب بطن الأمة فأعتق السيد جنينها وحده, نظرت فإن أسقطته حيا لوقت يعيش مثله ففيه دية حر نص عليه أحمد وإن كان لوقت [ لا ] يعيش مثله ففيه غرة لأنه حر على قول ابن حامد وعلى قول أبي بكر, عليه عشر قيمة أمه وإن أسقطته ميتا ففيه عشر قيمة أمه لأننا لا نعلم كونه حيا حال إعتاقه ويحتمل أن تجب عليه الغرة لأن الأصل بقاء حياته فأشبه ما لو أعتق أمه. إن الغرة إنما تجب إذا سقط من الضربة, ويعلم ذلك بأن يسقط عقيب الضرب أو ببقائها متألمة إلى أن يسقط ولو قتل حاملا لم يسقط جنينها أو ضرب من [ في ] جوفها حركة أو انتفاخ, فسكن الحركة وأذهبها لم يضمن الجنين وبهذا قال مالك وقتادة, والأوزاعي والشافعي وإسحاق, وابن المنذر وحكي عن الزهري أن عليه الغرة لأن الظاهر أنه قتل الجنين فلزمته الغرة, كما لو أسقطت ولنا أنه لا يثبت حكم الولد إلا بخروجه ولذلك لا تصح له وصية ولا ميراث, ولأن الحركة يجوز أن تكون لريح في البطن سكنت ولا يجب الضمان بالشك وأما إذا ألقته ميتا فقد تحقق, والظاهر تلفه من الضربة فيجب ضمانه سواء ألقته في حياتها, أو بعد موتها وبهذا قال الشافعي: وقال مالك: وأبو حنيفة: إن ألقته بعد موتها لم يضمنه لأنه يجري مجرى أعضائها وبموتها سقط حكم أعضائها ولنا, أنه جنين تلف بجنايته وعلم ذلك بخروجه فوجب ضمانه, كما لو سقط في حياتها ولأنه لو سقط حيا ضمنه فكذلك إذا سقط ميتا, كما لو أسقطته في حياتها وما ذكروه ليس بصحيح لأنه لو كان كذلك لكان إذا سقط ميتا ثم ماتت, لم يضمنه كأعضائها ولأنه آدمي موروث فلا يدخل في ضمان أمه, كما لو خرج حيا فأما إن ظهر بعضه من بطن أمه ولم يخرج باقيه ففيه الغرة وبه قال الشافعي وقال مالك, وابن المنذر: لا تجب الغرة حتى تلقيه لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما أوجب الغرة في الجنين الذي ألقته المرأة وهذه لم تلق شيئا فأشبه ما لو لم يظهر منه شيء ولنا أنه قاتل لجنينها, فلزمته الغرة كما لو ظهر جميعه ويفارق ما لو لم يظهر منه شيء, لأنه لم يتيقن قتله ولا وجوده وكذلك إن ألقت يدا أو رجلا أو رأسا, أو جزءا من أجزاء الآدمي وجبت الغرة لأنا تيقنا أنه من جنين وإن ألقت رأسين أو أربع أيد, لم يجب أكثر من غرة لأن ذلك يجوز أن يكون من جنين واحد ويجوز أن يكون من جنينين فلم تجب الزيادة مع الشك لأن الأصل براءة الذمة وكذلك لم يجب ضمانه إذا لم يظهر, فإن أسقطت ما ليس فيه صورة آدمي فلا شيء فيه لأنا لا نعلم أنه جنين وإن ألقت مضغة فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية, ففيه غرة وإن شهدت أنه مبتدأ خلق آدمي لو بقي تصور ففيه وجهان أصحهما, لا شيء فيه لأنه لم يتصور فلم يجب فيه كالعلقة, ولأن الأصل براءة الذمة فلا نشغلها بالشك والثاني فيه غرة لأنه مبتدأ خلق آدمي, أشبه ما لو تصور وهذا يبطل بالنطفة والعلقة. أن الغرة عبد أو أمة وهذا قول أكثر أهل العلم وقال عروة وطاوس, ومجاهد: عبد أو أمة أو فرس لأن الغرة اسم لذلك وقد جاء في حديث أبي هريرة قال: (قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الجنين بغرة عبد أو أمة أو فرس أو بغل) وجعل ابن سيرين مكان الفرس مائة شاة, ونحوه قال الشعبي لأنه روى في حديث (عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه جعل في ولدها مائة شاة) رواه أبو داود وروي عن عبد الملك بن مروان أنه قضى في الجنين إذا أملص بعشرين دينارا فإذا كان مضغة, فأربعين فإذا كان عظما ستين فإذا كان العظم قد كسى لحما فثمانين, فإن تم خلقه وكسى شعره فمائة دينار قال قتادة: إذا كان علقة فثلث غرة وإذا كان مضغة فثلثي غرة ولنا (قضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في إملاص المرأة بعبد أو أمة) وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاضية على ما خالفها وذكر الفرس والبغل في الحديث وهم انفرد به عيسى بن يونس عن سائر الرواة, فالظاهر أنه وهم فيه وهو متروك في البغل بغير خلاف وكذلك في الفرس, وهذا الحديث الذي ذكرناه أصح ما روي فيه وهو متفق عليه وقد قال به أكثر أهل العلم, فلا يلتفت إلى ما خالفه وقول عبد الملك بن مروان تحكم بتقدير لم يرد به الشرع وكذلك قتادة, وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحق بالاتباع من قولهما إذا ثبت هذا فإنه تلزمه الغرة فإن أراد دفع بدلها ورضي المدفوع إليه جاز لأنه حق آدمي, فجاز ما تراضيا عليه وأيهما امتنع من قبول البدل فله ذلك لأن الحق فيها فلا يقبل بدلها إلا برضاهما وتجب الغرة سالمة من العيوب, وإن قل العيب لأنه حيوان وجب بالشرع فلم يقبل فيه المعيب كالشاة في الزكاة, ولأن الغرة الخيار والمعيب ليس من الخيار ولا يقبل فيها هرمة ولا ضعيفة, ولا خنثى ولا خصي وإن كثرت قيمته لأن ذلك عيب ولا يتقدر سنها, في ظاهر كلام الخرقي وهو قول أبي حنيفة وقال القاضي وأبو الخطاب وأصحاب الشافعي: لا يقبل فيها من له دون سبع سنين لأنه يحتاج إلى من يكفله له ويحضنه, وليس من الخيار وذكر بعض أصحاب الشافعي أنه لا يقبل فيها غلام بلغ خمسة عشر سنة لأنه لا يدخل على النساء ولا ابنة عشرين لأنها تتغير وهذا تحكم لم يرد الشرع به فيجب أن لا يقبل وما ذكروه من الحاجة إلى الكفالة باطل بمن له فوق السبع, ولأن بلوغه قيمة الكبير مع صغره يدل على أنه خيار ولم يشهد لما ذكروه نص, ولا له نظير يقاس عليه والشاب البالغ أكمل من الصبي عقلا وبنية وأقدر على التصرف, وأنفع في الخدمة وقضاء الحاجة وكونه لا يدخل على النساء إن أريد به النساء الأجنبيات, بلا حاجة إلى دخوله عليهن وإن أريد به سيدته فليس بصحيح, فإن الله تعالى قال: أن الغرة قيمتها نصف عشر الدية وهي خمس من الإبل روي ذلك عن عمر, وزيد رضي الله عنهما وبه قال النخعي والشعبي, وربيعة وقتادة ومالك, والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي ولأن ذلك أقل ما قدره الشرع في الجنايات, وهو أرش الموضحة ودية السن فرددناه إليه فإن قيل: فقد وجب في الأنملة ثلاث أبعرة وثلث وذلك دون ما ذكرتموه قلنا: الذي نص عليه صاحب الشريعة -صلى الله عليه وسلم- غرة قيمتها أرش الموضحة, وهو خمس من الإبل وإذا كان أبوا الجنين كتابيين ففيه غرة قيمتها نصف قيمة الغرة الواجبة في المسلم وفي جنين المجوسية غرة قيمتها أربعون درهما وإذا تعذر وجود غرة بهذه الدراهم وجبت الدراهم لأنه موضع حاجة وإذا اتفق نصف عشر الدية من الأصول كلها, بأن تكون قيمتها خمسا من الإبل وخمسين دينارا أو ستمائة درهم فلا كلام وإن اختلفت قيمة الإبل, فنصف عشر الدية من غيرها مثل إن كانت قيمة الإبل أربعين دينارا أو أربعمائة درهم فظاهر كلام الخرقي أنها تقوم بالإبل لأنها الأصل وعلى قول غيره من أصحابنا, تقوم بالذهب أو الورق فجعل قيمتها خمسين دينارا أو ستمائة درهم فإن اختلفا, قومت على أهل الذهب به وعلى أهل الورق به فإن كان من أهل الذهب والورق جميعا, قومها من هي عليه بما شاء منهما لأن الخيرة إلى الجاني في دفع ما شاء من الأصول ويحتمل أن تقوم بأدناهما على كل حال لذلك وإذا لم يجد الغرة انتقل إلى خمس من الإبل على قول الخرقي وعلى قول غيره ينتقل إلى خمسين دينارا أو ستمائة درهم. أن الغرة موروثة عن الجنين, كأنه سقط حيا لأنها دية له وبدل عنه فيرثها ورثته, كما لو قتل بعد الولادة وبهذا قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي وقال الليث: لا تورث, بل تكون بدله لأمه لأنه كعضو من أعضائها فأشبه يدها ولنا أنها دية آدمي حر, فوجب أن تكون موروثة عنه كما لو ولدته حيا ثم مات وقوله: إنه عضو من أعضائها لا يصح لأنه لو كان عضوا لدخل بدله في دية أمه, كيدها ولما منع من القصاص من أمه وإقامة الحد عليها من أجله, ولما وجبت الكفارة بقتله ولما صح عتقه دونها ولا عتقها دونه, ولا تصور حياته بعد موتها ولأن كل نفس تضمن بالدية تورث كدية الحي فعلى هذا, إذا أسقطت جنينا ميتا ثم ماتت فإنها ترث نصيبها من ديته, ثم يرثها ورثته وإن ماتت قبله ثم ألقته ميتا لم يرث أحدهما صاحبه وإن خرج حيا ثم مات قبلها ثم ماتت, فإنها ترث نصيبها من ديته ثم يرثها ورثتها وإن ماتت قبله ثم ألقته ميتا, لم يرث أحدهما صاحبه وإن خرج حيا ثم ماتت قبله ثم مات أو ماتت ثم خرج حيا ثم مات, ورثها ثم يرثه ورثته وإن اختلف وراثهما في أولهما موتا فحكمهما حكم الغرقى على ما ذكر في موضعه ويجيء على قول الخرقي في المسألة: التي ذكرها, إذا ماتت امرأة وابنها أن يحلف ورثة كل واحد منهما ويختصوا بميراثه وإن ألقت جنينا ميتا, أو حيا ثم مات ثم ألقت آخر حيا ففي الميت غرة, وفي الحي الأول دية كاملة إذا كان سقوطه لوقت يعيش مثله ويرثهما الآخر, ثم يرثه ورثته إن مات وإن كانت الأم قد ماتت بعد الأول وقبل الثاني فإن دية الأول ترث منها الأم والجنين الثاني ثم إذا ماتت الأم, ورثها الثاني ثم يصير ميراثه لورثته وإن ماتت الأم بعدهما ورثتهما جميعا. وإذا ضرب بطن امرأة فألقت أجنة, ففي كل واحد غرة وبهذا قال الزهري ومالك والشافعي, وإسحاق وابن المنذر قال: ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم وذلك لأنه ضمان آدمي فتعدد بتعدده, كالديات وإن ألقتهم أحياء في وقت يعيشون في مثله ثم ماتوا ففي كل واحدة دية كاملة وإن كان بعضهم حيا فمات وبعضهم ميتا, ففي الحي دية وفي الميت غرة. وتحمل العاقلة دية الجنين إذا مات مع أمه نص عليه أحمد إذا كانت الجناية عليها خطأ أو شبه عمد لما روى المغيرة بن شعبة, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة على عصبة القاتلة وإن كان قتل الأم عمدا أو مات الجنين وحده, لم تحمله العاقلة وقال الشافعي: تحمله العاقلة على كل حال بناء على قوله: إن العاقلة تحمل القليل والكثير والجناية على الجنين ليست بعمد لأنه لا يتحقق وجوده ليكون مقصودا بالضرب ولنا أن العاقلة لا تحمل ما دون الثلث, على ما ذكرناه وهذا دون الثلث وإذا مات وحده أو من جناية عمد فدية أمه على قاتلها, فكذلك ديته لأن الجناية لا يحمل بعض ديتها الجاني وبعضها غيره فيكون الجميع على القاتل كما لو قطع عمدا, فسرت الجناية إلى النفس.
|